قلب وراح
عدد الرسائل : 12 تاريخ التسجيل : 01/09/2007
| موضوع: اللهم نسألك الجنة الخميس نوفمبر 06, 2008 6:35 pm | |
| الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف المرسلين نبينا محمد وعلى آله وأصحابه ومن اتبع هداه واقتفى أثره إلى يوم الدين أما بعد :
فقد قال النبي : { قال الله عز وجل : أعددت لعبادي ما لا عينٌ رأت ، ولا أذنٌ سمعت ، ولا خطر على قلب بشر .. فاقرءوا إن شئتم : ( فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ ) [السجدة :17] } [رواه البخاري ومسلم وغيرهما].
قال الإمام ابن القيم رحمه الله : وكيف يقدر قدر دار غرسها الله بيده وجعلها مقراً لأحبابه ، وملأها من رحمته وكرامته ورضوانه ، ووصف نعيمها بالفوز العظيم ، وملكها بالملك الكبير، وأودعها جميع الخير بحذافيره، وطهرها من كل عيب وآفة ونقص.
فإن سألت : عن أرضها وتربتها ، فهي المسك والزعفران .
وإن سألت : عن سقفها ، فهو عرش الرحمن .
وإن سألت : عن ملاطها ، فهو المسك الأذفر .
وإن سألت : عن حصبائها ، فهو اللؤلؤ والجوهر.
وإن سألت : عن بنائها ، فلبنة من فضة ولبنة من ذهب ، لا من الحطب والخشب.
وإن سألت : عن أشجارها ، فما فيها شجرة إلا وساقها من ذهب.
وإن سألت : عن ثمرها ، فأمثال القلال ، ألين من الزبد وأحلى من العسل.
وإن سألت : عن ورقها ، فأحسن ما يكون من رقائق الحلل.
وإن سألت : عن أنهارها ، فأنهارها من لبن لم يتغير طعمه ، وأنهار من خمر لذة للشاربين ، وأنهار من عسل مصفى.
وإن سألت : عن طعامهم ، ففاكهة مما يتخيرون ، ولحم طير مما يشتهون.
وإن سألت : عن شرابهم ، فالتسنيم والزنجبيل والكافور.
وإن سألت : عن آنيتهم ، فآنية الذهب والفضة في صفاء القوارير.
وإن سألت : عن سعة أبوابها ، فبين المصراعين مسيرة أربعين من الأعوام ، وليأتين عليه يوم وهو كظيظ من الزحام.
وإن سألت : عن تصفيق الرياح لأشجارها ، فإنها تستفز بالطرب من يسمعها.
وإن سألت : عن ظلها ففيها شجرة واحدة يسير الراكب المجد السريع في ظلها مئة عام لا يقطعها.
وإن سألت : عن خيامها وقبابها ، فالخيمة من درة مجوفة طولها ستون ميلاً من تلك الخيام.
وإن سألت : عن علاليها وجواسقها فهي غرف من فوقها غرف مبنية، تجري من تحتها الأنهار.
وإن سألت : عن ارتفاعها ، فانظر إلى الكوكب الطالع ، أو الغارب في الأفق الذي لا تكاد تناله الأبصار.
وإن سألت : عن لباس أهلها ، فهو الحرير والذهب.
وإن سألت : عن فرشها ، فبطائنها من إستبرق مفروشة في أعلى الرتب.
وإن سألت : عن أرائكها، فهي الأسرة عليها البشخانات ، وهي الحجال مزررة بأزرار الذهب ، فما لها من فروج ولا خلال.
وإن سألت : عن أسنانهم ، فأبناء ثلاثة وثلاثين ، على صورة آدم عليه السلام ، أبي البشر.
وإن سألت : عن وجوه أهلها وحسنهم ، فعلى صورة القمر.
وإن سألت : عن سماعهم ، فغناء أزواجهم من الحور العين ، وأعلى منه سماع أصوات الملائكة والنبيين ، وأعلى منهما سماع خطاب رب العالمين.
وإن سألت : عن مطاياهم التي يتزاورون عليها ، فنجائب أنشأها الله مما شاء ، تسير بهم حيث شاؤوا من الجنان.
وإن سألت : عن حليهم وشارتهم ، فأساور الذهب واللؤلؤ على الرؤوس ملابس التيجان.
وإن سألت : عن غلمانهم ، فولدان مخلدون ، كأنهم لؤلؤ مكنون.
وإن سألت : وإن سألت عن عرائسهم وأزواجهم ، فهن الكواعب الأتراب ، اللائي جرى في أعضائهن ماء الشباب ، فللورد والتفاح ما لبسته الخدود ، وللرمان ما تضمنته النهود ، وللؤلؤ المنظوم ما حوته الثغور ، وللدقة واللطافة ما دارت عليه الخصور.
تجري الشمس في محاسن وجهها إذا برزت ، ويضيء البرق من بين ثناياها إذا تبسمت ، وإذا قابلت حبها فقل ما شئت في تقابل النيرين ، وإذا حادثته فما ظنك في محادثة الحبيبين ، وإن ضمها إليه فما ظنك بتعانق الغصنين ، يرى وجهه في صحن خدها ، كما يرى في المرآة التي جلاها صيقلها [ الصيقل : جلاء السيوف ، والمقصود هنا تشبيه وجه الحوراء بالمرآة التي جلاها ولمعها منظفها ختى بدت أنظف وأجلى ما يكون] ، ويرى مخ ساقها من وراء اللحم ، ولا يستره جلدها ولا عظمها ولا حللها.
لو أطلت على الدنيا لملأت ما بين الأرض والسماء ريحاً ، ولاستنطقت أفواه الخلائق تهليلا وتكبيراً و تسبيحاً ، ولتزخرف لها ما بين الخافقين ، ولأغمضت عن غيرها كل عين ، ولطمست ضوء الشمس كما تطمس الشمس ضوء النجوم ، ولآمن كل من رآها على وجه الأرض بالله الحي القيوم ، ونصيفها ( الخمار ) على رأسها خير من الدنيا وما فيها.
ووصاله أشهى إليها من جميع أمانيها ، لا تزداد على تطاول الأحقاب إلا حسناً وجمالاً ، ولا يزداد على طول المدى إلا محبةً ووصالاً ، مبرأة من الحبل ( الحمل ) والولادة والحيض والنفاس ، مطهرة من المخاط والبصاق والبول والغائط وسائر الأدناس.
لا يفنى شبابها ولا تبلى ثيابها، ولا يخلق ثوب جمالها ، ولا يمل طيب وصالها ، قد قصرت طرفها على زوجها ، فلا تطمح لأحد سواه ، وقصرت طرفه عليها فهي غاية أمنيته وهواه ، إن نظر إليها سرته ، وإن أمرها أطاعته ، وإن غاب عنها حفظته فهو معها في غاية الأماني والأمان .
هذا ولم يطمثها قبله أنس ولا جان ، كلما نظر إليها ملأت قلبه سروراً ، وكلما حدثته ملأت أذنه لؤلؤاً منظوماً ومنثوراً ، وإذا برزت ملأت القصر والغرفة نوراً.
وإن سألت : عن السن ، فأتراب في أعدل سن الشباب.
وإن سألت : عن الحسن ، فهل رأيت الشمس والقمر.
وإن سألت : عن الحدق ( سواد العيون ) فأحسن سواد ، في أصفى بياض ، في أحسن حور ( أي : شدة بياض العين مع قوة سوادها ).
وإن سألت : عن القدود ، فهل رأيت أحسن الأغصان.
وإن سألت : عن النهود ، فهن الكواعب ، نهودهن كألطف الرمان.
وإن سألت : عن اللون ، فكأنه الياقوت والمرجان .
وإن سألت : عن حسن الخلق ، فهن الخيرات الحسان ، اللاتي جمع لهن بين الحسن والإحسان ، فأعطين جمال الباطن والظاهر ، فهن أفراح النفوس وقرة النواظر.
وإن سألت : عن حسن العشرة ، ولذة ما هنالك : فهن العروب المتحببات إلى الأزواج ، بلطافة التبعل ، التي تمتزج بالزوج أي امتزاج .
فما ظنك بامرأة إذا ضحكت بوجه زوجها أضاءت الجنة من ضحكها ، وإذا انتقلت من قصر إلى قصر قلت هذه الشمس متنقل في بروج فلكها ، وإذا حاضرت زوجها فيا حسن تلك المحاضرة ، وإن خاصرته فيا لذة تلك المعانقة والمخاصرة :
وحديثها السحر الحلال لو أنه *** لم يجن قتل المسلم المتحرز
إن طال لم يملي وإن هي أوجزت *** ود المحدث أنها لم توجز
إن غنت فيا لذت الأبصار والأسماع ، وإن آنست فيا حبذا تلك المؤانسة والإمتاع ، وإن قبلت فلا شيء أشهى إليه من ذلك التقبيل ..
هذا ، وإن سألت : عن يوم المزيد ، وزيارة العزيز الحميد ، ورؤية وجهه المنزه عن التمثيل والتشبيه ، كما ترى الشمس في الظهيرة والقمر ليلة البدر ، كما تواتر النقل فيه عن الصادق المصدوق ، وذلك موجود في الصحاح ، والسنن المسانيد ، ومن رواية جرير، وصهيب ، وأنس، وأبي هريرة ، وأبي موسى ، وأبي سعيد ، فاستمع يوم ينادي المنادي :
يا أهل الجنة
إن ربكم تبارك وتعالى يستزيركم فحيَّ على زيارته ، فيقولون سمعاً وطاعة ، وينهضون إلى الزيارة مبادرين ، فإذا بالنجائب قد أعدت لهم ، فيستوون على ظهورها مسرعين ..
حتى إذا انتهوا إلى الوادي الأفيح الذي جعل لهم موعداّ ، وجمعوا هناك ، فلم يغادر الداعي منهم أحداً ، أمر الرب سبحانه وتعالى بكرسية فنصب هناك ، ثم نصبت لهم منابر من نور ، ومنابر من لؤلؤ ، ومنابر من زبرجد ، ومنابر من ذهب ، ومنابر من فضة ، وجلس أدناهم - وحاشاهم أن يكون بينهم دنيء - على كثبان المسك ، ما يرون أصحاب الكراسي فوقهم العطايا ، حتى إذا استقرت بهم مجالسهم ، واطمأنت بهم أماكنهم ، نادى المنادي :
يا أهل الجنة .. سلامٌ عليكم .
فلا ترد هذه التحية بأحسن من قولهم : اللهم أنت السلام ، ومنك السلام ، تباركت يا ذا الجلال والإكرام .. فيتجلى لهم الرب تبارك وتعالى يضحك إليهم ويقول :
يا أهل الجنة
فيكون أول ما يسمعون من الله تعالى : أين عبادي الذين أطاعوني بالغيب ولم يروني ، فهذا يوم المزيد .. فيجتمعون على كلمة واحدة : أن قد رضينا ، فارض عنا ، فيقول :
يا أهل الجنة
إني لو لم أرض عنكم لم أسكنكم جنتي ، هذا يوم المزيد ، فسلوني فيجتمعون على كلمة واحدة : أرنا وجهك ننظر إليه.
فيكشف الرب جل جلاله الحجب ، ويتجلى لهم فيغشاهم من نوره ما لو لا أن الله سبحانه وتعالى قضى ألا يحترقوا لاحترقوا .. ولا يبقى في ذلك المجلس أحد إلا حاضره ربه تعالى محاضرة ، حتى إنه يقول :
يا فلان ، أتذكر يوم فعلت كذا وكذا ، يذكره ببعض غدراته في الدنيا ، فيقول : يا رب ألم تغفر لي ؟
فيقول : بلى بمغفرتي بلغت منزلتك هذه .
فيا لذة الأسماع بتلك المحاضرة .. ويا قرة عيون الأبرار بالنظر إلى وجهه الكريم في الدار الآخرة .. ويا ذلة الراجعين بالصفقة الخاسرة .. ( وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ (22) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ (23) وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌ (24) تَظُنُّ أَن يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ ) [القيامة :22-25].
فحيِّ على جنات عدنٍ فإنها *** منزلك الأولى وفيها المخيم
ولكننا سبي العدو فهل ترى *** نعود إلى أوطاننا ونسلم
انتهى كلام ابن القيم رحمه الله تعالى [ حادي الأرواح إلى بلاد الأفراح : ( ص355-360) ].
| |
|